قصتي مع العمل الثقافي... قرار وألم وولادة ونسيان


بدأت تجربتي في ممارسة العمل الثقافي وأنا في المرحلة الاعدادية، تزامنا مع اول مهرجان وطني للشباب 1985، بدأت متطفلا على التمثيل المسرحي، لكن هذا التطفل سرعان ما تحول الى "فيروس صديق"، وقد خلصني – مؤقتا – من حب دفين للسينما التي كانت بالنسبة لى، وأنا طفل صغير، الحلم الكبير...
التحقت بالاتحاد الوطني لمسرح الهواة، ممثلا.. ثم كاتب نصوص، ومخرجا مسرحيا، الى ان وصلت بي الاقدار الي ادارة المكتب الجهوي للاتحاد، بولاية اترارزة (منطقة جنوبية على حدود السنغال)..
دام هذا الحال، حتي التحقت بالتلفزة الوطنية كممثل في برنامج ساخر (شي الوح افشي).. وتتابعت الاحداث وتلونت، من ممثل، الى محرر ببعض الصحف، الى مصمم معلوماتي، ثم مؤسس ومدير لصحيفة ساخرة (اشطاري)..
حتي صيف 1999 حين زارني المخرج عبد الرحمن سيساغو في مكتبي، ليبلغني عزمه تصوير فلمه (في انتظار السعادة) بمدينة انواذيبو... ورغبته في اشراكي في التجربة...
حينها ... حصل "الانفجار الكبير" كما يقول الفيزيائيون...
عملت كمساعد مخرج في الفلم... وتلاحقت الاحداث... سفر الى باريس للمساعدة في المونتاج... وعودة اخري الي باريس للدراسة في مدرسة سينمائية...
ثم حط الرحال في البلد ... وتأسيس "دار السينمائيين" ، ابريل 2002.
كان ذلك منذ عشر سنوات...
بدأت بحلم لم يقنع البعض... وخاف منه البعض الاخر... ووصفه الكثيرون بالجنون... وقلة قليلة أسرّت ايمانها...
كان المشهد – ولايزال – عبارة عن بلد يصنف السينما في قائمة "الثقافات سيئة السمعة"، لا ادارة للسينما، لا معهد ، لا قاعة عرض، لا رغبة سياسية... لا أحد يتكلم تلك "اللغة"..
اليوم تغيرت واجهة المشهد... لكن الخلفية لم تتغير كثيرا...
اليوم... يحسب لهذا الاسم "سينما" حسابه في المشهد الثقافي للبلد...
جمهور متعطش، عشرات الشباب المخرجين، افلاما وطنية، مهرجانا سينمائيا، مؤسسات للإنتاج، تكوينات بالعشرات، حضور دولي واقليمي...
اما الخلفية فلم تبرح مكانها كثيرا... غياب تام للاهتمام الرسمي بالسينما، لا دور عرض، لا مدارس ولا معاهد سينمائية... لا متخصصين بالسينما في قطاع الثقافة...
ورغم ذلك... تجربتي مازالت متواصلة...
انها تشبه إلى حد كبير تجرية كل أم مع الحمل والولادة...
تتكرر نفس الآلام والمعانات... قبل أن يجد المولود الجديد النور..
أقسم في كل مرة – لو خرجت منها سالما – أن لن اكررها...
يولد المولود .. ويترعرع... ويزداد حبا إلى فلبي.. فأشعر بحاجته إلى الرعاية، والنمو... وإلى "أخ" يشد عضده... ويلاعبه.
وفي لحظة نسيان للألم... وغفلة عن القسم... يحدث "الحمل" ..ويبدأ الألم وتشتد المعاناة، وأتمنى أن يكون "حملا كاذبا"..
لكن المخاض يأتي عسيرا.. عسيرا.. ويولد المولود.. حينا "ولادة طبيعية"، وأحايين "ولادة قيصرية" جراحوها أجهزة أمن وأوصياء على الثقافة...
وهكذا دواليك... قرار.. وألم.. وولادة.. ونسيان.. ونسيان وقرار وألم وولادة ونسيان.
لا أتذكر كيف ومتى أفكر في الشروع في عمل ثقافي، لكني أتذكر بكل التفاصيل كيف يتعاطى الآخر مع العمل.. من متلقي، وشريك، وراعي، وممول...
فالمتلقي يعتبره ديْنا تأخر كثيرا عن السداد، وتراكمت عليه "الفوائد" وينبغي أن يسدد اليوم قبل غد، وفي أبهي حلة، ومن دون أي نواقص..
والشريك يعتبره "له وحده"، إنما "تكرّم" عليّ بأن أكون الواجهة..
والراعي الرسمي، يعتبره "صدقة جارية" وعلىّ أن أذكرها، وأذكّر بها في كل لحظة، حتي أكثر اللحظات "خصوصية"، وأسمعها لكل فرد، حتى أفراد عائلتي. وإلا، أكون ناكر جميل وجاحد نعيم..
أما الممول فحدث ولا حرج.. فبالنسبة له أنا "عدم" من دونه، وبالتالي فعليّ أن أتحدث بنعمائه الكبرى، وخصائله التي لا تحصى، وخيره الذي لا يفنى، فهو الكل في الكل، وسواه لا يسمن ولا يغني من جوع..

هكذا أنا.. بل هكذا "الوليد/المشروع الثقافي"، حمل غير متوقع، وولادة محاطة بالمخاطر، ونموٌ بين عائلة أفرادها : متلقي مغيّب، وشريك مكابر، وراعي منّان، وممول متألّه

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السينما الموريتانية... حلم التشكّل

سيساكو: سينما بطعم الرمال