الاثنين، 9 مايو 2022

سيساكو: سينما بطعم الرمال

عبد الرحمن لاهي

صدر هذا المقال في كتاب: عين الصقر، الدورة السابعة من مهرجان أفلام السعودية – يونيو 2018


عبد الرحمن سيساكو، مخرج صامت، ومتصوف كتوم، وثائر متحرر.. يقاسمنا أفلاما كبيرة، تحكي أشيائنا الصغيرة، وتحولها إلى ملحمة مشتركة، وإيقاع متناغم، وقصيدة يفهمها الكل.. بالقليل من الكلام والكثير من الصمت، يقدم لقطات حبلى بالإشارات والدلالات، في عمق كل لقطة عشرات القصص والأحاسيس.. والمطبات كذلك.
ومع كل إنارة داخل إطار الصورة يحدد سيساكو درسه الذي يريد لنا كمشاهدين أن نكون جزءا منه.. وأن نتخلص من عقدة المشاهد، وعقدة الطلب والعرض.
مدرسة سيساكو الفنية متعددة التخصصات والنظريات، لكنها موحدة في المنهاج، فهي تعتمد على مادة واحدة (الصمت والمراقبة).
تتولد غالبا تلك الخاصية من ثقافة الصحراء، حيث الصمت الصاخب، والمراقبة الدقيقة لأفق لا ساحل له، وحبات رمل لا تتوقف عن الرحيل. تلك الصحراء، التي لم تُكتب إلا شعرا، حتى جاء حفيد أولائك الشعراء ليترجم قصائدهم إلى صور.
ورغم كثافة وحداثة المواضيع التي عالج في أفلامه، إلا أننا سندخل محرابه، ونكتفي برحلة صمت ومراقبة لمحطات ثلاثة أفلام من بين أفلامه: (في انتظار السعادة) - (باماكو) - (تمبكتو).
حين يستعير منا انتباهنا، وأشيائنا..
يستخدم سيساكو فنا بارعا من الاستعارة التي تميز كل أفلامه، وتشكل مساحة الاستعارة، الزمان والمكان الذي يضرب فيه الموعد مع المتفرج.
في الموعد/ الفيلم، يتحدث سيساكو مع جمهوره من خلال الصورة التي لا تحتاج لوسيط ولا لمترجم، ويتفادى لغة الترغيب والترهيب، فهو لا يمارس الدعاية لفكرة، ولا الوعظ من منبر، إنما يقدم بكل بساطة دعوة مفتوحة غير ملزمة، للحضور إلى أشيائنا التافهة وقصصنا الساذجة، بعد أن يطبخها على نار هادئة في مساحة مشتركة.
مساحة تُغفِل في الكثير من الحالات هوية الحدث والمكان والبطل، وهي حِيلٌ يتقنها سيساكو، لدرجة وضع المشاهد في حالة إرباك من الزمان والمكان، مع ثقة مطلقة بالأحداث والأشخاص، تماما كما يتلاعب بنا David Lean في فيلم (لورنس العرب)، من خلال تحريك الكاميرا يمينا ويسارا لينقل لنا الشعور بحجم السفر وتنوع الأمكنة في الصحراء.
سيساكو.. يكتب ذاته
كل فيلم لسيساكو هو بمثابة سيرة ذاتية، وإن لم يكن كذلك ففيه، على الأقل، من روحه نفخة، ومن حياته محطة، وفي مجمل أفلامه سرد لمحطات مختلفة من حياته، من قصص حب عاثر "بموسكو"، وتتبع لطيف صديق "بروندا"، واستراحة محارب بصحاري "تونس"، وتخليد يوم كوني في قرية نكرة "بمالي"، وتتبع ذكريات عائلة بمدينة "كيفه"، والتجول بين منازل مدينة "نواذيبو" .. تلك المنازل المصطفة استعدادا للسفر في الصحراء والبحر.
كان آخر تلك المحطات، تلك القصيدة المرئية التي كتب بين سهول المجابات الكبرى على مشارف مدينتي "ولاته" و"تمبكتو".
ليس كل صمت قاتلا
القاسم المشترك في سيمفونية أفلام سيساكو، هو "الصمت والمراقبة".. مراقبة لرحيل إلى وجهة مغايرة استعدادا لرحيل آخر.. رحيل يشبه رحيل حبات الرمل مع هبوب أي نسيم أو أية عاصفة مهما كان اتجاهها. أو كرحيله، هو ذاته، حتى وهو يحط الرحال مؤقتا في مكان مؤقت.
رغم ذلك فهو يحاول في كل مرة التخلص من ألم الرحيل الذي لا يفارقه، ليبدع بعيدا عن مكمن إبداعه في المرة المنصرمة، لكن المبدع شبيه بالمحب العاشق، إن لم يكن هو ذاته، والعاشق لا يشفى أبدا.
"يجول بآفاق البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق"
وما بين قوسي البحر والرمل، ومزدوجتي بداية فلم ونهايته، رحيل يبدأ وآخر يدفن.
يقوم سيساكو في أفلامه بمحو كل العلامات التي من شأنها أن تخلق منك مشاهدا، فهو يريدك أن تكون جزءا من العمل، يريدك فاعلا لا مفعولا به. أنت بالنسبة له، جزء من سردية رسومات وعلامات الفيلم التي يمكنك تجميعها حسب رغبتك، لتكتب فيلمك من فيلمه.
في انتظار الفيلم.. أو في انتظار السعادة
فيلم (في انتظار السعادة) هو مفكرة لرحلة زائر عابر سبيل، إلى مدينة تتهيأ للمغادرة.. في هذا الفيلم، يكتب عبد الرحمن سيساكو مذكرات المدينة والمارة والفراغ والأشباح، في انتظار الفيلم، لكن الفيلم يبدأ دون أن ننتبه، فجأة نجد أنفسنا داخل الفيلم، دون أن نستعد، أو ننتبه..
تماما كما تهب العاصفة تحت جنح الليل بين تلال الصحراء الوعرة، وتخترق صمت الليل في حي بدوي، كان يمارس قبل لحظات لعبة محاكاة النوم، فتنطلق الأحداث والصراعات ويختلط الترقب بالخوف، والرحيل بالانتظار.
عبد الله، الشاب العشريني، يصل قمة الصراع مع ذاته، فهو عالق حد التيه في حب الفتاة (نانا).. ومتعلق حد التبتل بالمغادرة إلى هناك.. أي هناك، المهم ألا يكون هنا.. فهو كما يقول سيساكو عن نفسه: (أينما كنت أتواجد، أشعر دائما أنني هناك).
هذه "الوصفة" تنطبق على كل سكان "الحوش", من غسال الملابس (ديالو) إلى المطربة (النعمه بنت اشويخ).. لا أحد يريد البقاء، بل لا أحد يعرف تماما لماذا هو هنا! تائهون، هائجون.
وفجأة تنقشع "العاصفة" وتهدأ الأحداث، وتتحول العاصفة إلى هفيف، وينسى أهل الحوش.. بل وينسى المشاهد حدة وهيجان اللحظات السابقة.. ويتناغم الجميع مع ألحان المطربة النعمه بنت اشويخ، وهي جالسة تحت خيمتها المنصوبة في الحوش، ولسان حالها يكرر مع أعرابية الخليفة العباسي:
وما ذنب أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
وتتأوه (سكينه) والدة الشاب عبد الله.. وهي تخرج وتدخل غرفتها.. فقط لأن إرادة الخروج لا تبارحها، وعلى شفتيها تتلاعب أحرف وكلمات تشبه كثيرا بيت الأعرابية الآخر:
لها أنة عند العشاء وأنة ... سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت
فتتمايل الأقمشة المتراصة على حبل وسط الحوش وكأنها جماهير جاءت لتستمتع بطرب النعمه بنت اشويخ، ورائحة البخور المنبعثة من غرفة سكينة.
صدى المحيط الخارجي
من بين الأشياء السحرية التي يتقنها سيساكو، سلاسة وانسيابية إسقاط معاني ودلالات مناخ ومحيط التصوير داخل لقطات الفيلم، فأنت لا تشاهد ما في إطار الصورة فقط، بل تعيش الإطار كجزء من مشهد متكامل، وهو ما يُرى ويُسمع في فيلم (في انتظار السعادة).
فلا تكاد تخلو لقطة من صفير القطار، وصخب البحر، وهزيز الريح.. ثلاثية السفر والحركة. ولا يكاد يمر مشهد دون الإحساس بالرمل والفراغ والسكون.. ثلاثية الأمكنة الصحراوية.
فالفيلم كالصحراء بأقسامها الكبيرة الكثيرة المفتوحة والمتناقضة، تماما كأقسام الحوش المتنافرة، وأقسام اللقطات المتناغمة، وأقسام الحياة المتتالية: وداع، وسفر، ومنفى.
تقبض سكينة حبات رمل من أثر خطوات عبد الله وهي تودعه في سفره إلى هناك.. عادة أو عقيدة صحراوية، لم تغب عن المخرج، حتى وهو يضع المشهد في عصر حديث، ولغة وملابس عصرية مدنية.
تحتفظ سكينه بصرة الرمل في طرف ملحفتها، كمن يقول: أنت من هذه وإليها ستعود، أو كمن يقول: حين أشتاقك سألقى الرمل في مهب الريح وأتبع حبات الحصى لتوصلني إليك.
وينطلق عبد الله وفي نيته سفر طالما حلم به وخطط له. وعند بوابة الصحراء، يظهر سد الصحراء كبوابة حصن مغلق. وكما عانى سيزيف، يكابد عبد الله للصعود إلى أعلى ذلك التل الرملي الذي يُخيل إليه أنه يفصله عن (هناك)..
مشهد من أجمل سخريات الصحراء من القادمين من هناك.. وافد ببذلة كبذلة بائع أسهم في طوكيو، ونعل كنعل راقصي الافلامينكو، يتسلق تلا رمليا في عمق الصحراء.
يتهاوى عبد الله، كجلمود صخر حطه السيل من على.. عائدا لقاع التل. تودعه حبيبات رمل رشيقة ومنسابة بهدوء ورشاقة. لكن التل ليس بتلك الصعوبة والتمنع، والصحراء ليست خالية من السكان كما يوحي المشهد، فذلك الرجل الملثم الذي يخرج من لا مكان، ويشعل لعبد الله سيجارته، قطع التل عموديا وبسرعة البرق وبأقل عناء.
في هذا المشهد المهيب للصحراء، يخِزنا سيساكو قليلا.. نعم.. الصحراء خاوية، وكبيرة وهي مجرد حبات رمل متراكمة أو متراصة، لكنها ليست لكل العابرين.. أو على الأقل تحتاج إلى لغة وابروتوكول للتعايش والتناغم معها، إلى ملاطفة في الأفعال، ومساكنة بالتي هي أحسن، وإلا تحولت إلى كابوس، كالذي ظل يقض مضجع عبد الله، وهو الآن يتحول إلى علامة فارقة بأن الرحيل لن يكون.. أو أنه مؤجل على الأقل.
وإذا كانت الجثث التي يقذفها البحر في انتظار السعادة رمز لرفض حضارة لأخرى. فالرمل هنا، تأكيد لذلك الرفض.
سيرورة التعليم والتوريث التي رافقت الفيلم من بدايته، مع الفتاة الموسيقية ومعلمتها النعمه بنت اشويخ، والفتى عبد الله ومعلمه اللغوي الصغير (خطره)، تنقلب أيضا إلى عكس كل التوقعات مع الطفل خطره بعد أن فارقه معلمه (معط).. وتركه يواجه عواصف المواقف وحده بعمره اليافع، وأسئلته الكثيرة، وعلامات الاستفهام اللامتناهية.
كل البدايات في الفيلم لم تُكتب نهاياتها، لذلك يريد الطفل خطره، أن يعيد الشريط لبدايته، وأن يجرب إعادة الولادة والبدء من جديد، فينطلق في آخر لقطة من الفيلم، في صحراء تشبه السراب، بحثا عن معالم وأطلال (الأم)، وهنا يستقبله سيساكو بديكور من أجمل وأعمق وأذكى حيل إعادة رسم الصحراء وتطويع أشكال كثبانها؛ تلين منفصلين ومتوازيين يفصلهما عن تل ثالث، كومة عشب صغيرة.
يسير الطفل خطره بين التلين حتى يصل كومة العشب، ويتوقف لحظة كأنها دامت تسعة أشهر، لينطلق كمن جاء للحياة من جديد، مخلفا وراءه ذلك المشهد الرملي العاري، تتوسطه كومة عشب ندية وصغيرة.. ذلك المشهد الذي لا يعدو كونه جسما نسائيا متمددا بعد ألم المخاض.
ماما أفريكا.. تنتحب
فيلم (باماكو) - وكان بالإمكان أن يتسمى بأي عاصمة إفريقية، فالجسد واحد، ويتداعى بعضه لبعض - هو دعوى مدنية رفعتها إفريقيا ضد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذين دمرا ماما أفريكا، من خلال إجبار بلدانها على إجراء تعديلات هيكلية، ما أدى إلى خصخصة أو إلغاء الخدمات العامة وخدمات التعليم والخدمات الصحية والنقل العام؛ فيلم يحكى الأشياء بصراحة، ويصور الألم الإفريقي بصمت، وسخرية.
ولأن المخرج أحد ورثة أرض المليون شاعر فإن فيلم باماكو حالة من نفس السياق الشعري في عموم أفلامه، ولن يتمكن من الهرب من تلك التفاصيل والحميمية والسذاجة التي تشكل يوميات إفريقيا رغم البؤس، فيقدمها كلمة، ويقدمها صورة، بل ويقدمها حداء وغناء بلغة غير مفهومة لكنها تؤلم جدا، وذلك حين يقف المطرب الهرم الذي تحكي تجاعيد وجهه قصة مهد البشرية، ولا يجد ردا على سؤال القاضي غير إطلاق العنان لحنجرته والشدو بموال يشبه آلام المخاض.
وتتواصل المحاكمة في ذلك المنزل العائلي الكبير، دون أن تتوقف أو تتأثر الحياة اليومية في هذا الفناء الكبير وفي بيوت جيرانه، فالنساء يواصلن صباغة الأقمشة، وسحب الماء من الصنبور، والصبي البريء يلعب كرته، والفتاة المغنية تواصل تغيير ملابسها في الفناء بين القضاة والمحامين والمحلفين وكأنهم مجرد مجسمات لملء الفراغ في المكان.
وتتواصل المحاكمة بمرافعاتها وطعونها وشهودها، وكأن ساكني الحوش مجرد أشباح لا تملأ المكان، حتى حين يعبر موكب الزفاف بين منصة القضاة وكراسي الجمهور؛ حياتان متوازيتان ومتصالحتان رغم تناقضهما بل وعدائيتهما، تتناوبان بشكل مؤثر، كوميدي ومأساوي.
يكشف سيساكو كل أوراقه وأوراق غريمه من خلال المرافعات، ومن خلال تدخلات غير مبرمجة لسكان الحوش، حين يسترق أحدهم السمع للمداخلات ويحس هبوطا في معنويات المترافعين، فيشفي غليله بتدخل غير مبرمج، ولا يخضع لقوانين وابروتوكولات المحكمة. وحين يأتي المساء ويخرج الغرباء يتحول الفناء إلى جلسة عائلية، ويلتئم شمل سكان الحوش لمشاهدة مسلسلهم (الموت في تمبكتو)، وهي لحظة النظر في المرايا من خلال مرايا..
فيلم مضمن في فيلم للحديث عما تعذر ذكره في الفناء نهارا، أو لمشاهدة المعنى البصري للكلام اللفظي الذي جاء ذكره في جلسات المحاكمة ذلك اليوم: مرتزقة من البيض والسود يتجولون في (تمبكتو) لتنفيذ مذبحة.
واحد من مُدرسيْن يقتل، لأن "واحدا يكفي" حسب صندوق النقد الدولي.
ثم أم شابة، ثم رجلين بطلقة واحدة..
ثم جنريك..
وينقشع نهار الغد لتتواصل المحاكمة..
منطوق الحكم
إذا كانت المحاكمة لم تنطق بحكم لصالح إفريقيا، أو قرار ضد البنك الدولي، واكتفت بالمرافعات، فإن محكمة أخرى، في مكان ما من صحراء إفريقيا حكمت ونفذت الموت في حق قافلة من شباب القارة، كانوا في طريقهم إلى بلاد العم سام.
مرة أخرى يعود بنا سيساكو إلى الصحراء وقوانينها التي تقسو تارة حتى على أبناءها، في مشهد مقسم إلى ثلاث لقطات:
- جثة فتاة في ريعان شبابها، تتأبط قنينة كانت قبل أيام مليئة بالماء والأمل والحلم بالجنة التي هناك، ووجه تحول مكياجه إلى غطاء رملي وأصبح يشبه فرعونا محنطا في متحف القاهرة، ولم يبق إلى جانبها من مؤنس سوى خنافس ألفت الرمل والعطش والشمس الحارقة.
- قافلة شبابية تظهر وتختفي ثم تظهر وتختفي بين ألسنة الرمال، كتذبذب موجات السراب، وبتقطيع اللقطة وانكسار اتجاهاتها تشعرك بالتيه والرحيل دون بصيرة إلى وجهة غير معلومة.
- سرب من الخنافس السوداء تجوب الرمل في كل الاتجاهات، كمن يفتش عن هارب متسلل إلى جنة الرمال، لقطة توحي بالمشهد النمطي لحراس شواطئ البحر الأبيض المتوسط على الضفة الايطالية أو الاسبانية.
لا مفر لك .. ماما افريكا..
من لم نقض عليه بالتعديلات الهيكلية، سننتظره عند الضفة الأخرى للبحر.. هذا إذا سلِم من صحرائك القاحلة ولفح حرها.
هكذا أراد فيلم باماكو أن يقدم لنا الدرس.
لؤلؤة الصحراء الصامتة
فيلم تمبكتو، يحكي قصة استيقاظ مفاجئ لسكان المدينة الحالمة على متطرفين دينيين وافدين يفرضون نظاما جديدا، وقانونا جديدا على سكان (تمبكتو) التاريخية المليونية.
دعوة أخرى من سيساكو إلى معاينة ومشاهدة ما جرى في ذلك المكان من صحراء إفريقيا التي كانت، حتى عشية الحصار، محجا للراغبين في الاستماع إلى الصمت، والنوم مفترشين الأرض وملتحفين السماء.
الدعوة تبدأ من تلك اللقطة التي يزيح فيها الوافدون خرقة القماش عن وجه الرهينة.
(افتحوا أعينكم أيها المشاهدون، وشاهدوا بأنفسكم، فلست هنا للنيابة عنكم).. هكذا يخيل إليك أن سيساكو نطق تلك الجملة.
تغلغل فرض "النظام الجديد" في كل مناحي حياة الناس، وتفاصيل يومياتهم وخصوصياتهم، وتحولت المدينة إلى سجن في الهواء الطلق، ورمز للمدينة المحاصرة؛ أصبحت النساء ظلالا وأشباحا يحاولن المقاومة حفاظا على ما بقي من كرامتهن.. لا مزيد من الموسيقى والضحك والسجائر وحتى كرة القدم...
ورغم ذلك حافظت تمبكتو على جمالها الساحر المهيب وحيائها الصامت وغنجها، حتى وهي تفقد عذريتها تحت الحصار والبارود والكبت والمسح.
مرة أخرى يختار سيساكو عالم الصحراء، بزمانها المعلق، وجيوب أمكنتها المحصنة، حيث يعيش المنمي (كيدان) حياة بسيطة وسلمية في الكثبان الرملية، محاطًا بزوجته (ساتيما) وابنته (تويا) وراعيه الصغير (إيسان). لكن مساحة الحرية هذه، الواقعة خارج الزمن، ستصلها عيون القانون الجديد، وتختلس نفوس الطامعين في النظر إليها، وتضمر النيل من جسدها المحتمي تحت الشعر الأسود المنساب من رأس زوجته.
ويطال الكسوف المظلم تلك العائلة الوديعة عندما يسعى الأب إلى تسوية نزاع خاص مع صياد قتل إحدى بقراته، ولم تنفع كاهنة الفودو الهايتية وتعاويذها في تجنب العاصفة التي حولت بقية الأحداث إلى سلسلة من المآتم والتشريد.
سيدة (في انتظار السعادة) لم تمت بعد..
حين يعود القائد (عبد الكريم) من محاولة أخرى يائسة لاختطاف قلب وود زوجة كيدان، يطلب من سائقه التوقف فجأة في وسط الصحراء الممتدة الموحشة، ينظر بحنق ممزوج بالأسف والغيرة والوله إلى جهة التلال والكثبان الرملية المتراصة، ثم يسدد طلقات نارية متتالية إلى "تلين منفصلين ومتوازيين يفصلهما عن تل ثالث، كومة عشب صغيرة".. فيمحو الرصاص العشب.. ويتنفس القائد الصعداء منتشيا ومتحسرا، ليس بإمكانه غير ذلك، فقد فشل في اختطاف حب ساتيما لزوجها كيدان.
ولأنه يلخص كل حبه وألمه في مناطق من الجسد فلم يكن لديه إلا مسح كل علامة تحيل إلى وجعه، بل ويذهب أبعد من ذلك، فربما لم يكن يريد للطفل (خطره) في فيلم في انتظار السعادة أن ينجح في إعادة حياته.
وهذه الإشارات تتعدد كثيرا في أفلام سيساكو، فقلما يوجد فيلم من أفلامه إلا وفيه إيحاء أو مواصلة لفكرة أو صورة مرت في فيلم قبله. فالمذياع الذي يمثل أحد أبطال فيلم (حياة على الأرض) سيدفنه (ماكان) في الرمل بداية فيلم (في انتظار السعادة)، وبضاعة الممثل الصيني في فيلم (في انتظار السعادة) سيعرضها بائع إفريقي على المحكمة في فيلم (باماكو)، وهي ميزة تعطي لسينما سيساكو وحدة في الأزمنة والأمكنة.
بالإضافة إلى خاصية (غمزات سينمائية) يعرفها المتفرجون المخضرمون، يُضمّنها سيساكو لمخرجين أصدقاء، أو يقدمونها له، كتلك التي قدم له المخرج التشادي (هارونا) من خلال استخدام نفس الملحفة التي تلبس (سكينه) في (في انتظار السعادة)، حين ألبسها هارونا للفتاة في فيلمه (أبونا).
زحمة المرور في الصحراء
تتلاحق الأحداث الدموية والمأساوية بشكل سريع وبإيقاع البرق والرعد.. طلقة من مسدد، أحكام بالجلد، والقتل، ثأر وحنق.. وينفلت مشهد كالعاصفة، هروب ومطاردات.. وتيه.. وتتحول تلك المجابات الكبرى إلى مشهد يوحي باختناق المرور، وعدمية المكان.
ومرة أخرى يستلمنا المخرج ليلعب بتركيزنا كما يحلو له، ويجذبنا إلى داخل اللقطات لنستشعر كثافة الأحداث وألم المواقف، فلم يعد لاتجاه اللقطة تسلسل منطقي، تماما كغياب المنطق فيما يحدث هنا.
مشاهدة أفلام عبد الرحمن سيساكو، كعبور الصحراء، تحتاج الصمت والمراقبة، والانتظار والاستعداد والتفاعل.
وقراءة أفلامه، تشبه فك رموز قصيدة موغلة في البساطة حد السريالية، كل تفعيلة منها تمثل فاصلة صغيرة من محطات الرحلة الكبرى التي كثيرا ما نغفل عنها لشدة توقعنا وانتباهنا لنقطة الوصول، كما يقول باولو كويلو.
فالمخرج المتصوف يمنح السر لمريديه وغير مريديه.
Peut être une image de 1 personne

الجمعة، 22 أبريل 2022

السينما الموريتانية: مخرجون عالميون وإنتاج متواضع

 



محمد الحبيب

«عفاريت»

ظل الموريتانيون لقرون طويلة معزولين في صحرائهم الممتدة الشاسعة، يتناقلون الروايات والقصص شفاهة بالسرد المنثور أو بالشعر الذي برع فيه الشناقطة كثيراً، وقد لعب دوراً محورياً في تصوير الاحداث ونقلها من جيل إلى آخر، وعندما دخل المستعمر الفرنسي مع بداية القرن العشرين أدخل معه وسائله الحديثة لنقل المعلومات والأحداث كآلات التصوير والتسجيل المسموع والمرئي، فكانت بالنسبة للكثيرين «سحراً» أو «عفاريت» أو شيئاً ما من صنع القوى الخفية المبهمة.

وفي مطلع الخمسينيات وبينما كانت قصص هذه الآلات العجيبة تنتشر بين الموريتانيين قام الفرنسيون بتسيير بعثات رحّالة تجوب الأرياف حاملة شاشات عرض سينمائية لإطلاع أبناء المجتمع البدوي على وسائل التكنولوجيا الحديثة ودمجهم في حياة العصر، وبما أن هذه الشاشات بشخوصها المتحركة الناطقة ظهرت فجأة دون ممهدات ثقافية ومعرفية، أطلق الموريتانيون عليها «سيارة العفاريت»، وهي تسمية تبدو متناغمة إلى حد بعيد مع الموروث الثقافي السائد، وهكذا بدأت السينما في موريتانيا غريبة مخيفة لتنتهي أداة طيعة في أيدي مخرجين مميزين من هذا المجتمع الذي صنفها يوما «كعفريت».

رواد

في الواقع ساهمت «سيارة العفاريت» بشكل لا يستهان به في تعريف الموريتانيين بحقيقة السينما، وأحدث سحر الصورة الذي حملته الشاشات المتنقلة عبر الأرياف والمدن الموريتانية المنعزلة، وشيئا فشيئا تشكل جمهور محدود يمتلك ثقافة سينمائية في المدن الرئيسية خاصة في نواكشوط العاصمة، وقد حفز ذلك التطور المستثمر الفرنسي غوميز الذي وصل إلى موريتانيا في مطلع الستينيات، فجلب معه شاشة عرض كبيرة وافتتح أول صالة للسينما في موريتانيا،الى ان دخل رجل الأعمال الموريتاني همام فال.

ويقول المخرج سالم دندو معلقاً: بدأ الرجل نشاطه بافتتاح قاعة المنى المشهورة بالافلام الهندية و الاجنبية . وفي ما بعد، أسّس سينما «الجُوّاد»، ثم استمر في إنشاء المزيد من القاعات حتى وصل عددها إلى 11 قاعة في نواكشوط والمدن الداخلية.وعلى إثر ذلك لُقب همام فال «بملك السينما الموريتانية».

بدأت دور العرض السينمائي في موريتانيا بالانحسار مع بداية التسعينيات وذلك حين دخلت في منافسة قوية مع الشاشة الصغيرة»التلفزيون«. ويقول المخرج الموريتاني دوندو ل «البيان» في نواكشوط معلقاً على هذه النقطة» صحيح أن ظهور التلفزيون وأجهزة الكومبيوتر والهواتف الذكية ساهمت في اختفاء دور العرض السينمائي، ولكن لم يحدث الأمر نفسه في بلدان اخرى حيث لا تزال دور العرض موجودة وتقدم الفرجة لروادها «.

وفي نقلة جديدة للسينما الموريتانية اسس المخرج عبد الرحمن ولد احمد سالم «دار السينمائيين الموريتانيين«التي أسسها في العام 2002 م،وقامت الدار منذ نشأتها بمحاولات لا بأس بها لإنعاش صناعة السينما في موريتانيا، أبرزها مهرجان»الأسبوع الوطني للفيلم«، إضافة إلى ذلك تنظم الدار ما يعرف بالشاشة الرحالة«التي تنقل السينما إلى الأرياف والبوادي النائية

مواهب

برزت مواهب عدد من عشاق هذا الفن لتقهر التحديات ومن أبرزهم: محمد هندو وأتحفنا بالعديد من أفلامه المتميزة ، منها »جولة في المنابع، 1967«. و»أيتها الشمس، 1969«. و»كل مكان ولا مكان، 1969«، و»العرب والزنوج أو جيرانكم، 1973«.. وغيرها. أما المخرج سيدني سوخنا،فأخرج أفلاماً رائعة، نذكر منها فيلم»الجنسيات المهاجرة، 1975«الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم في فيسباكو سنة 1977 وكذلك فيلم»سافرانا، 1978«.

ونختم بالظاهرة ونجم الإخراج السينمائي العالمي عبد الرحمن سيساغو، الذي ينتمي للجيل الحديث من المخرجين الموريتانيين الذي ابهر العالم بأفلامه الرائعة التي مكنته من الحصول على أفضل الجوائز، ومن اشهرها»الحياة على الأرض، 1998«و»في انتظار السعادة، 2002«، و»بامكو، 2006«أما أبرز أفلامه فهو فيلم»تيمبكتو، 2014 ).

وقد اختير الفيلم ليتنافس على جائزة السعفة الذهبية في المنافسة الرئيسية لمهرجان كان السينمائي، كما رُشح الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل توزيع جوائز الأوسكار السابع والثمانين. كذلك فاز الفيلم في الحفلة 40 من جائزة سيزار بجائزة أفضل فيلم وكذلك أفضل مخرج.


https://www.albayan.ae/five-senses/mirrors/2017-10-07-1.3061006


السينما الموريتانية... حلم التشكّل

 

حين لم يجد الموريتانيون تفسيراً لشريط الصور المتحرّكة أمامهم على شاشة العرض، لجؤوا إلى تفسيرات ماورائية فأطلقوا على تلك السيارات التي تعرض لهم هذه الأفلام تسمية "عربات الجان".

دار العرض الوحيدة المتبقية في العاصمة الموريتانية نواكشوط (الصورة للمخرج عبد الرحمن أحمد السالم)

تتداخل الرؤى المشكِّلة للحلم السينمائي الموريتاني بين التاريخي والأنثروبولوجي لتؤسّس في الأخير بوادر تشكُّل سينما موريتانية تدافع عن الهوية الوطنية وترسم لنفسها واقعاً بين ثقافات الأمم. بدأ ذلك الحلم في التشكُّل منذ نهاية الأربعينيات، حين شاهد الموريتانيون للمرة الأولى شاشة عرض سينمائي في حيّزهم الصحراوي المعزول عن العالم.

يتذكّر السينمائي عبد الرحمن أحمد سالم تلك المرحلة، "الأفلام التي كانت تعرضها الهيئات العسكرية الأجنبية الحاضرة في موريتانيا، والتي بدأت وفق المؤرّخ محمد سعيد ولد همدي، رحمه الله، في الأربعينيات مع القاعدة العسكرية في شمال موريتانيا، كانت أفلاماً للسكان المحليين، على قلتهم آنذاك، وكانت أولى الأفلام التي تُعرض في موريتانيا".

وتابع أحمد سالم أنه لاحقاً إبان الفتة الاستعمارية الفرنسية "كان الفرنسيون يعرضون أفلاماً تمجّد حضارتهم في مختلف مناطق الوطن".

أما المخرج الموريتاني سيد محمد الشيكر فيقول إن "ارهاصات تشكّل الحلم السينمائي في موريتانيا بدأت في نهاية الستينيات مع أعمال المخرج محمد هندو وسيدي سخنا، وتواصل الحلم في التشكّل مع جيل سيساكو وولد أحمد مسكه".

 

 

"عربات الجان"

 

حين لم يجد الموريتانيون تفسيراً لشريط الصور المتحركة أمامهم على شاشة العرض، لجؤوا إلى تفسيرات ماورائية فأطلقوا على تلك السيارات التي تعرض لهم هذه الأفلام تسمية "عربات الجان".

وتمكن بعض الشباب الموريتاني قبيل الاستقلال بسنوات، من دراسة السينما في فرنسا. ووفق ولد أحمد سالم "كان السينمائي محمد هندو (1939 - 2019(أول موريتاني يدرس المسرح والسينما. كان ذلك في مدينة الأنوار باريس، وتحديداً في العام 1959. الفتى المتحمّس لشغف الفن السابع هندو، ألهم العديد من الشباب الموريتانيين بعد ذلك، لاكتشاف هذا الفن من جيل الستينيات، أمثال سيدي سخنا وغيره الذين بدأوا يدرسون السينما".

بُعيد استقلال البلاد في العام 1960، أرسلت الدولة الموريتانية بعثات لدراسة التصوير على الرغم من أن التلفزيون حينها لم يكن موجوداً، إلا أنه كانت توجد

كاميرات سينمائية تصوّر الأحداث السياسية وتعرضها قبل فيلم السهرة في دار السينما الوحيدة حينها، والتي كانت تابعة للدولة، ومقرها مكان البرلمان الحالي.

تتالت الأمور سريعاً وتشكّلت الهيئة الوطنية للسينما، لتتحوّل لاحقاً إلى الأداة الوطنية للسينما والتلفزيون، وظهر التلفزيون وبدأ جمهور ثقافة الصورة يتّسع في أرض المليون شاعر.

وعرفت العاصمة الفتية نواكشوط حينها، قاعات عرض سينمائية لمستثمرين فرنسيين، راق لهم الاستثمار في هذا الوافد الجديد على المجتمع.

وبدأت العروض باستجلاب أفلام من السنغال، ومن ثم دخل موريتانيون في مجال استثمار عروض الأفلام من بينهم همام فال، وديدي ولد اسويدي. في الثمانينيات، بدأ الجيل الثاني بدراسة السينما، من بينهم المخرج الموريتاني العالمي عبد الرحمن سيساكو الذي درس السينما في أوكرانيا وعاد إلى فرنسا وأسس شركة إنتاج باسم "شنقيطي فيلم".

 

 

في انتظار السعادة

 

انتبه العالم إلى السينما الموريتانية المقبلة من أعماق الصحراء، حين حصد فيلم للمخرج الموريتاني الكبير عبد الرحمن سيساكو جوائز عدة في مهرجانات سينمائية معروفة. وحصل فيلم "في انتظار السعادة" لسيساكو على جوائز عدة في تظاهرات

ومهرجانات سينمائية كان أولها اختياره في مهرجان "كان" السينمائي الشهير لجائزة "نظرة ما". كما حصل على الجائزة الأولى لمهرجان السينما العربية لأفضل شريط طويل، الذي نظّمه معهد العالم العربي في أكتوبر (تشرين الأول) 2004.

ويُعتبر الفيلم "توليفة درامية" تحاكي سيرة المخرج الذي هو مؤلفه ومخرجه. أُنتِج الفيلم في العام 2002 وتدور قصته حول شخصية رئيسة واحدة، هي طالِب جامعي عاد إلى منزله في نواذيبو شمال موريتانيا فإذا به يتفاجأ من مشاهد الحياة اليومية في قارة أفريقيا، فضلاً عن الثقافات العربية المُغايرة تماماً لما عليه الوضع في الغرب.

ونجد تداخلاً كبيراً بين بنية نص رواية موسم الهجرة إلى الشمال للسوداني الطيب الصالح، مع قصة فيلم "في انتظار السعادة". ويصف المخرج ولد الشيكر، سينما سيساكو بـ "الشعر"، فهو بالنسبة إليه يكتب شعراً من خلال السينما.

 

آفاق واعدة

 

استطاع المخرجان عبد الرحمن سيساكو ومساعده في فيلم "في انتظار السعادة" عبد الرحمن أحمد سالم وآخرون، إنشاء مدرسة لتعلم الشباب مبادئ السينما، وأطلقوا على هذه المبادرة "دار السينمائيين".

هذه الدار لعبت دوراً كبيراً في خلق بيئة سينمائية في العاصمة، وكوّنت عشرات الشباب الذين خلقت لهم الدار مهرجاناً سنوياً تتبارى فيه أفلامهم.

ومع انفتاح الفضاء السمعي البصري في موريتانيا، تولى هؤلاء الشباب إخراج العديد من البرامج التلفزيونية في هذه القنوات.

أما الشاب سيد محمد ولد الشيكر أحد رواد السينما في موريتانيا، فبعد تخرجه من دراسة السينما في تونس، عاد إلى وطنه ليكوِّن شباباً عملوا معه في أفلامه، كان آخرها فيلمه "المتطرّف" الذي آثار جدلاً في موريتانيا قبل سنوات، حيث تطرق إلى موضوع الشباب الذين يتخرجون من الكتاتيب (مدارس لتعليم الصغار حفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة) ليلتحقوا بالجماعات المسلحة.

 

دار سينما واحدة

 

بلغ في عقد الثمانينيات عدد دور العرض أكثر من 12 في العاصمة وحدها، إلا أن هذا العدد تراجع إلى دار واحدة، عبارة عن شاشة كبيرة منصوبة في ساحة التنوّع الثقافي.

تعود أسباب تناقص دور السينما، إلى ثقافة المجتمع التي تحوّلت في الثمانينيات إلى ثقافة رافضة كلّ ما هو غربيّ، وتعزّزت مع سيطرة التلفزيونات على اهتمامات المتابعين.

وعلى الرغم من حلم السينمائيين الموريتانيين بوصول فنهم إلى العالمية، يقف عدم تجاوب الدولة مع صنّاع السينما حجرَ عثرةٍ أمام تحقيق ذلك. ويقول الدكتور أحمد مولود أيده الهلال، رئيس مهرجان نواكشوط للفيلم إن "إسهام وزارة الثقافة الموريتانية في مرجانهم لا يتعدّى الـ 3000 دولار أميركي، في حين كانت تساعد أكثر في دورات سابقة". ويضيف الهلال أن مهرجان نواكشوط للفيلم "هو الشكل الوحيد الذي بقيَ للسينما في هذا البلد".

وتبقى آمال السينمائيين الموريتانيين مشروعةً في اكتشاف العالم إنتاج مبدعيها في مجال الفنّ السابع، في عالم لم تعد الجغرافيا قادرةً على إقصاء الإبداع.


https://www.independentarabia.com/node/11476/%D9%81%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A3%D8%B6%D9%88%D8%A7%D8%A1/%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%91%D9%84


 

  • ولد بيروك: النظرة السلبية للمجتمع سببت ضعف السينما والفن التشكيلي

نواكشوط ـ الراية  ـ محمد عبد الرحمن:
ظهر فن السينما لأول مرة في موريتانيا في أواخر عهد الاستعمار، عندما أدخل الفرنسيون أجهزة عرض محمولة في سيارات لاستعراض انتصاراتهم في الحرب العالمية الثانية، قبل أن يفتتح الفرنسي “غوميز” عدداً من دور العرض السينمائي في موريتانيا في خمسينيات القرن الماضي، ورأى البعض في تلك الصور المتحركة ضرباً من “ظلال الجن”، وارتبطت السينما في أذهان كثير من سكان البلاد بالمستعمر ما جعل الأوساط الدينية والثقافية ـ التي كانت تقود مقاومة ثقافية مستميتة ضد المستعمر – تستهدف السينما استهدافاً قوياً بوصفها مجرد أداة استعمارية لنشر الخلاعة والمجون بين شباب المسلمين”.

لم تتغير كثيراً تلك النظرة السلبية لعامة الموريتانيين عن السينما منذ ذلك الوقت، وهو العامل الأبرز في تعثر هذا الفن، كما يقول مختصون، ومع تزايد الوعي بدور الفن السابع وأهميته ظهرت مبادرات لتطوير السينما والنهوض بها، وكان من أبرز تلك المؤسسات التي سعت للنهوض بالسينما الموريتانية وإخراجها من ركودها الطويل، مؤسسة دار السينمائيين وقد أسسها المخرج عبد الرحمن ولد أحمد سالم الذي مارس العمل الصحفي والمسرحي لفترة قبل أن يحترف الإخراج السينمائي، فالتحق بالمدرسة الدولية للسمعيات البصرية والإخراج بالعاصمة الفرنسية باريس، قبل أن يعود إلى موريتانيا ويؤسس “دار السينمائيين” سنة 2001.

دار السينمائيين.. جهود ونواقص
الراية ضمن استقصائها لأوضاع السينما وجهود تطويرها والصعوبات التي تواجهها، زارت دار السينمائيين الواقعة وسط نواكشوط – على بعد أمتار قليلة من مبنى وزارة الثقافة الموريتانية – وهناك التقينا بالمخرج عبد الرحمن ولد أحمد سالم مؤسس الدار ومديرها العام، حيث تحدث لنا عن السينما الموريتانية بشكل عام وعن تجربة مؤسسته بشكل خاص، وقال: “إن دار السينمائيين هي مؤسسة ثقافية تهتم بمجالين اثنين هما مجال التكوين الموجّه لغير المهنيين في المجال السينمائي والمجال الثاني هو بث الإنتاج السينمائي الهادف”. وأضاف ” لقد تأسست هذه الدار في ظروف خاصة حيث لم تعد في موريتانيا دور للعرض أو إدارة للسينما وحين غابت الثقافة السينمائية في هذا البلد، وفي وقت يصف فيه الموريتانيون فن المسرح والسينما بالفنون سيئة السمعة، وحيث لا توجد سياسة رسمية لتطوير هذا الفن”.

وحول الجهود التي بذلتها الدار لتحقيق تلك الأهداف قال المخرج ولد أحمد سالم: “سعت دار السينمائيين منذ تأسيسها إلى حفظ ما تستطيع حفظه من التراث الموريتاني من خلال توثيق مختلف محطاته بالصوت والصورة، ذلك ما يعكف على تنفيذه مركز حفظ التراث السمعي البصري لموريتانيا “كناش” التابع لدار السينمائيين، الذي يحفظ ما مضى للحاضرين ويدون ما يجري لأجيال المستقبل، وتنظم دار السينمائيين مهرجاناً عالمياً كل سنة هو مهرجان “الأسبوع الوطني للفيلم” ويستضيف المهرجان مخرجين من مختلف أرجاء المعمورة وتعيش العاصمة نواكشوط على وقع الحدث أسبوعاً من الاحتفاء بالسينما والسينمائيين موريتانيين كانوا أم أفارقة أم عربا أم عالميين ، ونحن الآن نحضر للدورة السابعة منه في أكتوبر المقبل، ويقدم هذا المهرجان محصلة سنوية لعمل دار السينمائيين ويتضمن عادة أفلام للتعريف ببلدان أخرى لأنه من بين أهدافنا التقريب بين الثقافات المختلفة والتعايش والتقارب بين الشعوب، ويتم استغلال الساحات العمومية في كبريات المدن لتنظيم عروض سينمائية منتظمة لأفلام لا تتاح للموريتانيين فرصة مشاهدتها على الفضائيات، وكذلك من خلال قافلة سينمائية هي “الشاشة الرحالة” التي تجوب طول البلاد وعرضها لعرض أفلام للبدو الرحل وقاطني الأرياف البعيدة، والذين ربما لم يشاهدوا في حياتهم صورة متحركة، وفضلاً عن ذلك تعمل دار السينمائيين أيضاً في الإنتاج السمعي البصري في مجال السينما سواء على المستوى المحلي أو إنتاج مشترك مع بلدان عربية كالجزائر وتونس والسعودية، وأوروبية مثل النرويج وفرنسا وإيطاليا وذلك من أجل التبادل الثقافي والاستفادة من التجارب المتقدمة لهذه الدول واستفادتهم هم أيضاً من ثقافتنا”.

وحول برامج مؤسسته ومشاريعها المستقبلية يضيف ولد أحمد سالم: “إن دار السينمائيين تسعى لإيجاد ثقافة سينمائية في موريتانيا، وذلك من خلال مجموعة من البرامج ترتكز على مجالات التكوين من أجل إيجاد كادر بشري لتوسيع القاعدة، بواسطة تنظيم دورات تكوينية وورش تدريبية عامة حول الصناعة السينمائية بشكل عام، أو متخصصة كورشات قي الكاميرا أو المونتاج أو الكتابة السينمائية يشرف عليها متخصصون موريتانيون وأجانب. ثم البث وذلك بتوفير بديل لدور العرض التي اختفت بالتركيز على عرض أفلام ملتزمة تحمل أفكاراً، وتسمو بأذهان الجمهور، إضافة إلى أفلام أخرى تحسيسية وتوجيهية وتثقيفية، ونعمل الآن على إنجاز واحد من أهم مشاريعنا وهو تأسيس معهد للتكوين السمعي البصري وهو مطلب ملحٍ في موريتانيا خصوصاً مع الظهور المتوقع للإعلام السمعي البصري وسأشارك قريباً في مدينة “ورززات” بالمغرب في ملتقى تشارك فيه أكثر من عشرين مدرسة سينمائية وهو مهرجان يقام كل سنتين وسنوقع اتفاقية هناك مع معهد ورززات السينمائي لدعم هذه المدرسة التي نطمح لإنشائها خصوصاً في مجال توفير مدرسين لهذا المعهد”.

وعن علاقة دار السينمائيين بوزارة الثقافة الموريتانية وهل يتلقون دعماً منها، قال ولد أحمد سالم: نحن كما ترون نجاور وزارة الثقافة ويصدق فينا قول الشاعر:

فجاورتها أرجو السلو بقربها فأصبح حالي جاور الماء تعطش.
وتابع قائلاً: “على كل حال علاقتنا بها هي علاقة الأبناء بأمهم ولسنا متأكدين من وجود نية مبيتة لدى الوزارة لعدم دعمنا كسينمائيين، ولا نريد أن نكون دائماً في موقع النقد للقطاع ولكن لدينا إحساس أن قطاع الثقافة لم يستوعب بعد أهمية السينما، فنحن في بلد لا تتوفر فيه مصانع الصورة الكبرى، ولكنه بلد غني بثقافاته المتعددة وأشخاصه وبمناظره الطبيعية وكان ينبغي أن يوظف كل هذا الثراء في خدمة السينما والثقافة بشكل عام فالقطاع لا يتوفر على مختصين في مجال السينما ولديه مشاغله الآنية”.

وختم مدير دار السينمائيين الموريتانيين حديثه لـ الراية بقوله: “أود من خلال صحيفة الراية الغراء أن أوجه دعوة للتواصل الثقافي مع هذه المنطقة من العالم العربي فلدينا اهتمامات ثقافية مشتركة وهناك بعض المشاريع الثقافية التي يمكن أن تبني بشكل مشترك بيننا خصوصا في مجال السينما وأوجه الدعوة إلي كل القائمين على الفن السينمائي في منطقة الخليج للتواصل مع موريتانيا فكلنا بحاجة إلى الآخر ويمكن أن يكمل الآخر، والمسألة ليست مسألة دعم مادي بقدر ما هي مسألة تعاطٍ ثقافي وتقارب وتبادل لصالح الجميع”.

ومن جانبه اعتبر مدير الثقافة والفنون بوزارة الثقافة الموريتانية محمد عدنان ولد بيروك أن “السينما لم تكن من الفنون المعروفة قديماً لدى المجتمع الموريتاني ومع تزايد الاهتمام بمشاهدة الإنتاج الدرامي لم يكن هناك إنتاج محلي للأفلام رغم ما يتضمنه ذلك من فوائد ثقافية واجتماعية للتعريف بالبلاد”.


صحيح أنه كانت هناك مبادرات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكنها اصطدمت بواقع الفيديو الجديد وواقع التليفزيون وتلاشت تلك الجهود مع الأسف”، ويضيف ولد بيروك في تصريح لـ الراية أن عدة هيئات مهتمة بهذا الفن أنشئت في السنوات الأخيرة من بينها دار السينمائيين والوكالة الموريتانية للسينما والتجمع السينمائي الموريتاني الممثل لاتحاد سينمائيي غرب إفريقيا ولعبت هذه الهيئات أدواراً متفاوتة في النهوض بهذا الفن.
وفيما يخص دعم وزارة الثقافة لفن السينما، قال ولد بيروك: “الوزارة لم تبخل في دعم هذه الجهود وإن كنا لسنا راضين عن مستوى هذا الدعم مثلهم، وقد يكون ذلك نتيجة للأرضية غير الخصبة لهذا الفن، مع أن هناك شباباً أصبحوا يظهرون كمخرجين، ونحن كوزارة لدينا استعداد تام لدعم السينما في موريتانيا وقد سبق أن دعمنا دورات الأسبوع السينمائي الموريتاني لكن المشكلة تبقى هي النقص الملحوظ في اهتمام المجتمع الموريتاني بالسينما ونفس الشيء يعاني منه الفن التشكيلي في بلادنا، ومع ذلك نحن نفتح الباب لدعم أي مبادرة لتطوير هذا الفن ونقدم منحاً للدراسة والتكوين لبعض الشباب في هذا المجال، لكنهم غالبا ما يغيرون مسارهم بعد فترة إلى مجالات أخرى نتيجة لأن النظرة لهذه الفنون لا تشجع كثيراً منهم، ولذلك لم يتطور هذا الفن عندنا مقارنة مع فنون أخرى كالشعر والموسيقى”. وهذا هو ما قد يفسر لنا إحجام الجهات الرسمية عن ضخ الكثير من الأموال في هذا القطاع دون نتيجة مضمونة مع أنه لدينا مخرجون كبار لهم حضورهم المعروف لدى الجميع.

الموريتانيات في الحلبة.. رغم الضغط والتهديد!
ولفت انتباه العديد من الموريتانيين قبل أسابيع أن فتاة موريتانية كسرت القيود الاجتماعية واختارت العمل في مجال السينما والتمثيل حين شاركت في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية بمصر بفيلم موريتاني بعنوان: “مشاعر أخرى”.

المخرجة والممثلة لالة بنت كابر، أكدت أنها واجهت صعوبات كثيرة بسبب عملها في السينما، لأن المجتمع الموريتانى لا يرحب بعمل المرأة، ووصلت تلك الضغوط لدرجة تلقيها تهديداً بالقتل، وعبّرت في فيلمها القصير “مشاعر أخرى”، الذي شاركت به في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية ، عما وصفته بـ” الكبت الذي تتعرض له المراهقات في بلادها.”

وأشارت بنت كابر إلى أن أهلها رفضوا في البداية دخولها مجال العمل الفني، لكن أمام إصرارها رضخوا للأمر، موضحة أن الإعلام الرسمى الموريتاني لا يعرض الأفلام التي تنتقد الأوضاع الاجتماعية الصعبة في البلاد، وقالت إن “المجتمع الموريتاني ليس مجتمعاً مغلقاً، لكنه يعتمد على المظاهر، وربما تقبل بعض العائلات عمل بناتها في التمثيل، لكن دون أن يظهرن على شاشة التليفزيون.”

تراجع وإحباط
وأغلقت آخر صالات العرض السينمائية أبوابها في نواكشوط، منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم، بعض انشغال جمهور روادها المحدود أصلاً بما أحدثته ثورة الاتصالات الجديدة من انتشار للفضائيات التلفزيونية والإنترنت وانتشار محلات الفيديو في الأحياء الشعبية التي تعرض نفس الأفلام التي تعرضها القاعات بأسعار زهيدة لتستهوي بعض شباب الأحياء الفقيرة وأطفال الشوارع وبعض المنحرفين وهي الفئات التي ارتبطت مع السينما عند غالبية المجتمع الموريتاني المحافظ الذي وقف من الفن السابع موقف شك وريبة، منذ أن افتتح الفرنسي “غوميز” دوراً للعرض السينمائي في موريتانيا في خمسينيات القرن الماضي، فقد كان الفرنسي “غوميز” أول من افتتح صالة عرض سينمائية بموريتانيا، وحظيت دور عرضه بإقبال طبقة المثقفين الموريتانيين المتواجدين أساساً حينذاك في عاصمتهم الفتية نواكشوط في وقت لم يكن يلتقط في موريتانيا أي بث تليفزيوني.

وفي وقت لاحق من الستينيات دخل على الخط شاعر شعبي ورجل أعمال معروف كانت له شهرته في عهد الرئيس الأول لموريتانيا المختار ولد داداه، هذا الموريتاني هو همّام أفال، الذي اشتري أعمال الفرنسي “غوميز” وآلت إلى ملكيته دور العرض السينمائية في البلاد والتي بلغ عددها في العاصمة نواكشوط 15 داراً، كان همام أفال أول موريتاني يفكر في الإنتاج السينمائي، فأنتج أفلاماً منها: ميمونة، وبدوي في الحضر، وتيرجيت.

ويقول بعض متتبعي تاريخ السينما الموريتانية إنه بوفاة همّام أفال، دخل هذا الفن مرحلة سبات عميق عصفت بدور العرض واحدة تلو الأخرى.. حيث تأسس التليفزيون الموريتاني الذي جذب انتباه جمهور السينما كما بدأت الأفلام المعروضة تنجرف في موجة السينما التجارية المعتمدة على الإثارة والإغراء، فحصل نوع من الصدام بين السينما وعلماء الدين لتختفي صالات السينما تدريجياً.

وعرفت موريتانيا مخرجين سينمائيين بارزين أمثال سيدينا سوخنا ومحمد ولد السالك ومحمد ميد هندو الذي يعتبر من أمهر المخرجين الموريتانيين، وقد هاجر إلى فرنسا مبكراً وأنتج هناك عدداً من الأفلام عالجت في أغلبها مواضيع الهجرة والعنصرية والتمييز، ومشاكل القارة الإفريقية.. وقد اختار هذا المخرج الإقامة في العاصمة الفرنسية، ليعمل مدبلجاً لصوت النجم الأمريكي “أدي ميرفي”.

أما المخرج سيدنا سوخنا، فقد غادر هو الآخر إلى فرنسا في نفس الفترة وأخرج بعض الأعمال السينمائية المهمة هناك ليعود إلي موريتانيا ويتفرغ للعمل الحكومي والسياسي، ويتقلد عدة مناصب دبلوماسية، وحقائب وزارية ثم ينتخب نائباً في البرلمان الموريتاني الحالي.

ومن أبرز المخرجين الموريتانيين بعد ذلك، عبد الرحمن سيساغو، الذي تلقى تكوينه السينمائي في الاتحاد السوفييتي ونال الكثير من الأوسمة الدولية في هذا الفن وفاز بأكبر الألقاب في الكثير من التظاهرات السينمائية، ومن ذلك حصوله سنة 2005 على الجائزة الأولى في مهرجان فيسباكو السينمائي، الذي ينظم كل عامين في عاصمة بوركينا فاسو “وغادوغو”، وذلك عن فيلمه “في انتظار السعادة”، كما فاز نفس الفيلم بجائزة الجمهور في مهرجان “كان” الفرنسي، هذا فضلاً عن عشرات الجوائز والتكريمات في عديد المهرجانات الكبيرة، كما تم اختيار سيساغو في لجنة تحكيم مهرجان “كان” الذائع الصيت نسخة 2007 ليكون بذلك أول إفريقي ينال هذا الشرف، كما توج بعد ذلك بوسام فارس في الثقافة والفنون في نظام الاستحقاق الفرنسي، كما تم توشيحه في موريتانيا بوسام “فارس في نظام الاستحقاق الوطني”.

ويشغل المخرج السينمائي الموريتاني سيساغو الآن منصب مستشار للرئيس الموريتاني مكلفاً بالشؤون الثقافية.


https://www.raya.com/2013/01/26/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d9%86%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%aa%d8%b9%d8%ab%d8%b1/


السينما الموريتانية: شاشةٌ من إسمنت

 على خلاف كثيرٍ من البلدان العربية، انطلق الإنتاج السينمائي في موريتانيا متأخّراً وظلّ يسير ببطء شديد. ساهمت في ذلك ثقافة الشفاهة التي شكّلت سدّاً منيعاً في وجه ثقافة الصورة، وأيضاً، نظرة الارتياب التي ترى في الفن السابع "وسيلة لتسويق أنماط ثقافية دخيلة على المجتمع".

يُضاف إلى ذلك غياب بنية تحتية في مجال السينما؛ فالعاصمة نواكشوط التي كانت تضمّ أكثر من 15 قاعة عرض في السبعينيات والثمانينيات، لم تعد تتوفّر، اليوم، على أيّة واحدة منها، شأنُها في ذلك شأن بقيّة المدن الداخلية.


يُحمّل المخرج السينمائي، عبد الرحمن أحمد سالم، الدولة مسؤولية هذا الوضع، قائلاً إنها رفعت يدها تماماً عن مجال السينما، ومذكّراً بإيقاف "إدارة السينما" في وزارة الإعلام وإلغاء مادة التعليم الفني من المناهج التعليمية.

رأي تسانده المخرجة الشابّة لالة كابر التي ترى أن إغلاق دور العرض وتوقّف الدعم والاهتمام الرسمي بالسينما، طيلة عقدين، أدّى إلى تغييب كامل لثقافة الصورة في البلاد، لدرجة أن كثيرين باتوا يخلطون بين المسرح والسينما.

غياب قاعات العرض دفع العديد من السينمائيين إلى إيجاد بدائل أخرى، مثل الساحات العمومية؛ على غرار "ساحة فضاء التنوع البيئي والثقافي"، وسط العاصمة، والتي شيّدوا فيها جداراً واتّخذوه شاشةً لعرض أعمالهم، وسرعان ما استقطبت "الشاشة الإسمنتية" جمهوراً.

يقول السينمائي الطالب ولد سيدي، إن اللجوء إلى الشارع كان الخيار الوحيد في ظلّ انعدام القاعات، مضيفاً أن "العرض خارج القاعة، وسط محيط طبيعي، له نكهة خاصّة، وأصبح متنفّساً لكثير من سكّان نواكشوط".

لم يمنع هذا الجو الخانق من بروز سينمائيين يحاولون تجاوز الأمر الواقع وتقديم تجارب جادّة، من بينهم المخرج عبد الرحمان سيساكو الذي حقّق فيلمه "تمبكتو" نجاحاً لافتاً وحاز عدّة جوائز عالمية ورُشّح للأوسكار. صحيحٌ أن سيساكو راكم تجاربه في فرنسا وليس في بلده الأم، لكن من المؤكّد أن الخبرات المهاجرة بمقدورها أن ترفد الصناعة السينمائية.

نذكر أيضاً الممثّل والمخرج سالم دندو الذي يخوض تجربة إنجاز أوّل فيلم طويل بإمكانات محلية، ومن دون الاستعانة بالتمويل أو الطواقم الفنية الأجنبية.

ووسط هذا المناخ، ظهرت العديد من المبادرات الساعية إلى النهوض بالسينما وإيجاد موطئ قدم لها في المشهد الموريتاني، من دون انتظار تدخّل حكومي لإنقاذ الوضع. من بين تلك المبادرات، "مهرجان نواكشوط الدولي للفيلم القصير"، الذي يشهد عرض أفلام موريتانية وعربية وأجنبية، وإقامة ورشات تدريبية، بهدف تقريب الشباب من السينما وتشجيع محبّيها على ممارستها.

المهرجان تنظّمه، منذ عشر سنوات، "دار السينمائيين الموريتانيين" التي أسّسها المخرج والمسرحي الموريتاني عبد الرحمن أحمد سالم سنة 2002، ويهدف إلى نشر ثقافة الصورة في البلاد، من خلال عروضها في الساحات العمومية عبر شاشات متنقّلة، ونشاط أعضائها، وغالبيتهم من الشباب المتطوّعين، لمحو الصورة النمطية للموريتانيين عن السينما.

يقول مدير المهرجان، محمد ولد إدوم، إن دورة هذه السنة، والتي ستنطلق في 23 تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل وتستمرّ أسبوعاً، ستشهد تنظيم عدد من الورشات التدريبية لفائدة عشرات الشباب، لتعريفهم بأساسيات فنون تصوير الفيديو والمونتاج والإخراج السينمائيين، إضافة إلى ورشات حول صناعة الأفلام الوثائقية وإدارة الممثل وكتابة السيناريو.

يؤكّد ولد إدوم أن الساحة السينمائية في موريتانيا تحتاج إلى بثّ نفَس جديد، مبدياً أمله في الأجيال الجديدة لتشكيل "جيل سينمائي يعي رسالة الفن السابع ويهتم بإيصال أحلامه ورسائله من خلال الصورة"، مضيفاً أن المشاركين في الورشات سيعيشون جوّاً سينمائياً يمهّد لهم الطريق إلى إخراج السينما الموريتانية من غيبوبتها.


https://www.alaraby.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B4%D8%A7%D8%B4%D8%A9%D9%8C-%D9%85%D9%86-%D8%A5%D8%B3%D9%85%D9%86%D8%AA


ما ذا تنتظرون؟

 نشر هذا المقال في موقع  الوكالة الموريتانية للصحافة بلغني وأنا -لأول مرة- خارج السور الجميل الذي جمع محبي المديح وجمهور لياليه، وعائلة تران...